ابن سينا وكتابه "القانون في الطب" في مكتبتنا التراثية

بقلم: هادية هجو، محرر وأخصائي مطبوعات
Ibn_Sina

أول من أدخل العلاج النفسي إلى عالم الطب، وظل كتابه "القانون في الطب"، ولسبعة قرون متتالية، المرجع الرئيسي في علم الطب حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوروبا. وقد أطلق الغربيون عليه لقبي "أمير الأطباء" و"أبو الطب الحديث" في العصور الوسطى. إنه ابن سينا، العالم والطبيب والفيلسوف المسلم، أحد أعلام الحضارة الإسلامية الذي ظلت أعماله شاهدة على الإسهامات العظيمة للحضارة الإسلامية ودورها في تطور الحضارة الأوروبية، بل الحضارة الإنسانية جمعاء. هو أبو عَلْي الحُسَيْنَ بن عَبد الله بن الحسَنَ بن عَلْي بن سِينَا البَلْخيّ ثم البُخاريّ المعروف بابن سينا. ولد سنة 370 هـ / 980م في قرية بالقرب من بخارى (أوزبكستان حاليًا) لأب من مدينة بلخ (أفغانستان حاليًا) وتوفي في همدان (إيران حاليًا) سنة 427 هـ /1037م. وقد ألّف حوالي 200 كتاب في علوم مختلفة، ولكنه كان يركز على لفلسفة والطب. فمن إجمالي 450 كتابًا يعتقد أنه ألفها، بقي نحو 240 مؤلفًا حتى وقتنا الحالي، منها 150 كتابًا في الفلسفة و40 كتابًا في الطب.

وذكرت بعض المصادر أن ابن سينا أصبح طبيبًا في سن الثامنة عشر، وكان قد بدأ بدراسة الطب منذ الثالثة عشر من عمره، وأصبحت له سُمعة مرموقة في الطب في بلاده وما حولها، ثم ذاعت شهرته في أوروبا بعد ترجمة أعماله إلى اللاتينية والعبرية. واستطاع ابن سينا أن يقدم للبشرية جمعاء بعض أهم الاكتشافات الطبية مثل الأمراض المعدية وكيفية انتقال العدوى وذكر أن الماء والهواء قد يحتوي على حيوانات صغيرة جدًا لا ترى بالعين المجردة هي التي تسبب بعض الأمراض. وهو الأمر الذي أثبته العلماء المتأخرون بعد عدة قرون من بعده وذلك بعد اكتشاف المجهر الذي لم يكن متاحًا له وقتها. 

وكتب ابن سينا عن أهمية البيئة والأمراض الناجمة عن التلوث البيئي، ومن المدهش أنه كان يمارس الطب التجريبي في ذلك الزمان بشكله الحالي، حيث كان يبتكر الأدوية ويجربها على الحيوان أولاً فإن أثبتت فعاليتها يعالج بها مرضاه. وهو أول من وصف مرض الالتهاب السحائي، ووصف السكتة الدماغية والشلل الناجم عن سبب داخلي في الجسم. ومن ملاحظاته الطبية الدقيقة السابقة لعصره، دراساته للاضطرابات العصبية وكان يعالج مرضاه عن طريق التحليل النفسي. واتبع ابن سينا في الفحص والتشخيص والعلاج نفس الأساليب الحديثة المتبعة الآن عن طريق جسّ النبض، والقرع بالأصابع فوق جسم المريض لتحديد بعض الأمراض الباطنية، والاستدلال بالبول والبراز وبعض تلك الأساليب التي اتبعها حينذاك نُسبت لاحقًا لأطباء جاءوا بعده بقرون.

وأظهر ابن سيناء براعة فائقة في علم الجراحة، فقد شرح عدة طرق لإيقاف النزيف مثل الكي بالنار والربط والأدوية الكاوية وتحدث عن أهمية استخراج السهام من الجسم دون إصابة الأعصاب أو الشرايين. ويعتبر ابن سينا أول من وصف عضلات العين الداخلية وشرح العصب البصري وذكر أنه مركز البصر وليس الجسم البلوري في العين كما كان يُعتقد من قبل. وكان ابن سينا جرّاحًا ماهرًا أجرى العديد من العمليات الجراحية الدقيقة بمهارة فائقة مثل استئصال الأورام السرطانية، وشق القصبة الهوائية، واستخراج حصاة الكلى وبعض أساليبه الجراحية في علاج بعض الأمراض مازالت تستخدم حتى الآن. جدير بالذكر أيضًا، أن ابن سينا هو أول من عزا الذكورة والأنوثة في الجنين إلى الأب وليس إلى الأم، وهو الأمر الذي أثبته مؤخرًا العلم الحديث.

كتاب القانون في الطب: موسوعة طبية خالدة يُعد كتابه "القانون في الطب" موسوعة شاملة للمعلومات والمعرفة الطبية، شرح ابن سينا فيه الأمراض التي تُصيب الإنسان في جميع أجزاء جسمه، وقدّم في كتابه هذا بعض أهم الاكتشافات الطبية التي تجاوزت ذلك العصر من حيث القدرات والإمكانات المتاحة وقتها، فإليه يعود اكتشاف عدد كبير من الأمراض التي ما زالت موجودة في وقتنا الحاضر. وكتاب "القانون في الطب" كُتب في الأصل باللغة العربية في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وتُرجم إلى عدد من اللغات الأخرى، بما في ذلك الفارسية واللاتينية والعبرية، وطُبعت أجزاء منه لاحقًا في ميلانو وبادوا والبندقية. وحَظي بمكانة عظيمة في الغرب ولاقى شهرة واسعة في أوروبا حتى اعتبره بعض العلماء في الغرب "الإنجيل الطبي" وكان المرجع الأساسي للطب وكان يدرّس في جامعات فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وغيرها من الدول الأوروبية.

عالِم موسوعي وبالإضافة لتميز ابن سينا ولمعان نجمه في علوم الطب والجراحة والصيدلة، وهي شهرة بلغت الآفاق وأسست لعلم الطب الحديث، كان ابن سينا فيلسوفًا وشاعرًا ورياديًا في العديد من العلوم والفنون. فقد كان عالمًا في الفيزياء والكيمياء والأحياء والفلك والجيولوجيا والرياضيات، بالإضافة لعلم النبات والموسيقى والمنطق وعلم النفس. وكان سابقًا لعصره في مجالات فكرية عديدة وذلك لأن عددًا كبيرًا من تحليلاته واستنتاجاته ثبتت صحتها بعد عدة قرون من الزمان. ونال ابن سينا تقدير العلماء والدارسين على مرّ العصور، واعتُبر ظاهرة فكرية عظيمة لا مثيل لها، واعتبره بعضهم من أعظم علماء الإنسانية على الإطلاق.

رحلة مع نسخ كتاب "القانون في الطب" في مكتبتنا التراثية تضمّ المكتبة التراثية بمكتبة قطر الوطنية نسخَا تاريخية نادرة عن كتاب "القانون في الطب" وترجماته المختلفة، نذكر منها: 

1. مخطوط أصلي باللغة العربية:  خُطَّت هذه النسخة في عام 416 هـ / 1025م في خمسة مجلدات تشمل المبادئ الطبية، والمواد والأدوات الطبية، والأمراض التي تصيب جزءًا واحدًا من الجسم، والأمراض التي تصيب أجزاء متعددة أو الجسم كله، ووصفات للأدوية المركبة.  رقم التصنيف: HC.MS.2017.0033: (i24555332) 

2. نسخة لاتينية مذهبة:  أُنتجت في ستراسبورغ بفرنسا عام 1473م تقريبًا بواسطة الناشر الشهير أدولف روش. وتعكس الزخارف المذهبة على صفحات هذه النسخة المكانة الرفيعة والقيمة العالية لهذا الكتاب في الغرب آنذاك.  رقم التصنيف: HC.FB.01923(i10069641)

3. مخطوط كامل مصوّر من الترجمة اللاتينية: تنسب هذه الترجمة إلى جيرارد كريمونا، المترجم الإيطالي الشهير للأعمال المعرفية العربية، لكتاب "القانون في الطب"، التي ظلت النسخة القياسية طوال فترة العصور الوسطى وعصر النهضة. ويعود تاريخ هذه النسخة، التي أنتجت في مملكة ليون عام 1498م، إلى الوقت الذي كانت فيه جامعة باريس تجتذب العلماء والدارسين من جميع أنحاء أوروبا، وحيث كان كتاب "القانون في الطب" هو أهم كتاب طبي حينها. رقم التصنيف: HC.MS.LAT.01922 (i10069653)

4. أول نسخة مطبوعة باللغة العربية: هذه الطبعة النادرة لكتاب القانون من أهم النسخ لدينا في المكتبة التراثية. وقد طُبعت في مطبعة ميديشي الشرقية بروما في العام 1002 هـ / 1593م، وكانت النسخة مملوكة لطبيب سرياني أضاف تعليقاته الخاصة على هوامش الكتاب باللغة السريانية الأمر الذي يعكس شكلاً من أشكال التواصل الحضاري والتلاقح الفكري بين الثقافات في ذلك الزمان. رقم التصنيف: HC.AB.2014.0219 (i21371982) 

 

إضافة تعليق جديد