مكّة والمدينة وتجربة الحجّ من خلال عدسة محمد صادق باشا (1861-1881)

الدكتور/ معز الدريدي، أخصائي أرشيف أول، إدارة المجموعات المُميزة
image of the holy kaaba

 

لقد ارتبطت الرحلات إلى الأماكن المقدسة، ولا سيما تلك المتجهة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، بالجوانب الروحية التي تُشكّل الركيزة الأساسية في التجربة الفردية، إلى جانب ما تنطوي عليه من أبعاد الاكتشاف والمغامرة التي قد تأتي أحيانا دون تخطيط مسبق. وقد حفظت لنا المكتبة العربية العديد من القصص والروايات التي تناولت تجارب عاشها الرحالة والمغامرون القادمون من شتى بقاع الأرض أو لبعض رجال الدولة الذين كانوا في زيارات رسمية. 

ولنا في هذا السياق تجربة أحد رواد السفر في المهام الرسمية لللأماكن المقدسة ألا وهو محمد الصادق باشا (1822–1902) الذي زار الأراضي المقدسة في أولى رحلاته عام 1861، والتي لم تكن الأخيرة، إذ أعقبتها رحلتان لاحقتان تفصل بينهما فترات زمنية طويلة. 

بعد أن أنهى دراسته في المدرسة الحربية بالقاهرة، اختير مع ثلاثة آخرين لمواصلة دراستهم في فرنسا، وكان ذلك في عام 1844. وقد عاد إلى مصر حاملاً شهادة في الهندسة من أعرق المدارس الفرنسية، ألا وهي مدرسة "البوليتكنيك" (التقنيات المتعددة)، بعد أن أتقن كذلك فنّ رسم الخرائط والتصوير الفوتوغرافي. وعند عودته إلى القاهرة، تفرغ للتدريس، حيث عُيّن مدرسًا لمادة الرسم في المدرسة الحربية.

Moahmmed Sadiq's signature
تفصيل من الركن السفلي الأيمن من ألبوم محمد صادق باشا
HC.HP.2018.0265-0001

 

قام محمد الصادق باشا بثلاث رحلات حجّ إلى مكة والمدينة، سجّل فيها بدقّة مشاهداته وانطباعاته، التي نشرها لاحقًا في مناسبات مختلفة بالقاهرة خاصة في أعمدة "الجريدة العسكرية المصرية" Egyptian Military Gazette. لقد كانت الغاية الرئيسة من هذه الرحلات إلى منطقة الحجاز تحقيق أهداف عسكرية، وأبرزها إعادة رسم خرائط دقيقة للمنطقة، وتحديد المسافات، وتوثيق مواقع الأودية والجبال وآبار المياه، إلى جانب جمع معلومات ضرورية تُسهِم في تنظيم الحملات وقيادة الجيوش أثناء الحروب والغزوات. 

كانت زيارته الأولى لأسباب سياسية بتكليف من محمد علي باشا الذي كان قد شنّ حملات عسكرية على الجزيرة العربية. ولم تكن النوايا والأهداف هي التقاط صور فوتوغرافية بل كانت الغاية من هذه الرحلة هي تحقيق أهداف عسكرية تُعين الجيش المصري في حملاته، فتمثلت مهمته الأساسية في دراسة المواقع وتحديد المناخ والظروف الجوية وضبط الطرق والمحطات.

ورغم الطابع العسكري الواضح والجلي لمهمته، لم يُفوّت صادق باشا الفرصة دون توثيق مشاهد فريدة من المدينة المنورة، فقد التقط صورًا هي من أوائل الصور لتلك الديار. وقد أشار إلى ذلك بفخر في نص تدوين رحلته، بقوله:

"وما سبقني أحد لأخذ هذه الرسومات بهذه الآلة أصلاً". 

ما يدل على اطلاعه العميق على ما كان يجري في تلك الربوع من أحداث ووقائع وعلى علم بمن وصل هناك والتقط صورًا لتلك الأماكن المقدسة. هذا الاستنتاج تدعمه المصادر المكتوبة والدراسات المعاصرة إذ لم تحتفظ لنا الأرشيفات العامة والخاصة لصور هذه الأماكن قبل هذا التاريخ. فكل ما وصلنا قبل هذا التاريخ الذي زار فيه الصادق باشا للحجاز هي صور قليلة ومتناثرة لمدن ساحلية مثل جدة ومسقط وعدن التقطتها كاميرات بعض الرحالة الذين كانوا في طريقهم إلى الهند. 

Mosque and Tomb of the Prophet in Madinah
المسجد والقبر النبوي في المدينة المنورة
طباعة ألبومين على بطاقة تركيب، 1298هـ / 1881م
HC.HP.2018.0265-0002

 

قبل هذا التاريخ وفي بداية القرن التاسع عشر، قام الرحّالة الإسباني دومنغو باديا (1767–1818) برسم ملامح الأماكن المقدسة بدقة متناهية وذلك أثناء زيارته لمكة عام 1807، لكن تبقى الصورة الفوتوغرافية ولا تزال أكثر دقة وصدقًا في نقل حقيقة المشهد. فالصورة تُعدّ نقلًا أمينًا وخاليًا من التحيّز، بخلاف عين الرسام التي قد تُحَوّر أو تُنمّق أو حتى تُشوّه المنظر لأسباب عديدة ومختلفة. إذ إن عين الرسام قد تكون انتقائية في بعض الأحيان، بل خادعة، على عكس ما تنقله لنا الصورة الفوتوغرافية من أمانة وصدق في تمثيل الواقع. 

وبالعودة للحديث عن الصادق باشا قد تزيل عنا الشكوك وتدفعنا إلى الاعتراف له بالأسبقية في ميدان التصوير الفوتوغراف وانه ما وصلنا يعدّ من أوائل الصور التي التقطتها عدسات الكاميرات التي دخلت تلك الربوع.

فمن خلال عمل كل من وليام فيسي وجليان غرانت حول المملكة العربية وأوائل المصورين، يتبين لنا أن أول الصور الملتقطة كانت لمسجد الرسول الكريم وذلك عام 1861 من قبل المصري محمد صادق باشا. ثم عاد مرة أخري في عام 1880 ليلتقط صور للحرم المكي الشريف. أنظر، المملكة العربية في عيون أوائل المصورين، مركز الدراسات العربية، لندن، 1996. ص، 8.   

ففي أثناء حديثه عن أول صورة للحرم النبوي الشريف، يقول

"اخذت رسم المدينة المنورة بواسطة الآلة الشعاعية المسماة بالفتوغرافية مع قبة المقام الشريف والمنارات"، انظر، ص، 47. 

ثم نراه يضيف في نفس السياق وفي نفس الصفحة طبيعة عمله وكيف أنه تمكن من رسم القبة الشريفة حيث أمكنه ذلك من داخل الحرم وبنفس الآلة مدعما قوله بيقينية وثقة في النفس أنه الأول ولم يسبقه أحد من قبل في ذلك.

لعل أول ما يسترعي انتباهنا هو المصطلحات والتعابير التي استُعملت للدلالة على التقاط الصورة؛ إذ يقول: "أخذتُ رسمًا"، وهي عبارة تحمل أكثر من دلالة. فكأنّه لا يزال ينتمي إلى منظومة الرسوم، ولم تدخل الصورة الشمسية بعد في قاموس استعمالاته اليومية. لا يزال الرسم بالفرشاة يهيمن على الساحة الفنية والمعرفية. ويظهر الأمر كذلك من خلال حديثه عن "الآلة الفتوغرافية"، التي كانت تُسمى حينها بـ"الشعاعية" نظرًا لالتقاطها الأشعة، سواء كانت ضوئية أو شمسية. في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الصور واستعمال الآلات لا تزال من الظواهر الحديثة والنخبوية، وهو ما تعكسه الألفاظ المتداولة آنذاك.

كما زوّدنا الصادق باشا ببعض المعلومات عن مضمون الصور التي التقطها، وذلك في سياق حديثه عن مسيرته الرحلية إلى الأراضي المقدسة. فقد كان، من حين إلى آخر، يُطلعنا على ما التقطه من صور خلال تجواله ولقاءاته الهامة. ومن بين تلك الصور، التقط صورة فوتوغرافية لحضرة الشيخ عمر الشيبي من بني شيبة، الذي كانت قد أوكلت إليه مهمة العناية بمفتاح بيت الله الحرام وخدمته، وقد أرسلها إليه مرفقة بأبيات شعرية. (انظر: ص. 106من كتاب الرحلات الحجازية، إعداد وتحرير، محمد همام فكري، بيرت، دار بدر، 1999.)

The Shaykh of the Mosque of Madinah
شيخ المسجد النبوي،
طباعة ألبومين على بطاقة تركيب، 1880
HC.HP.2018.0265-0004

 

عديدة هي الإشارات والمعلومات التي ساقها لنا صادق باشا خلال سرده لرحلته بخصوص الصور التي التقطها. إلا أنه لم يتوسّع في الحديث، ولم يُطنِب في التحليل أو التعليل أو تفسير الدوافع والمبررات، بل يلمّح أحيانًا، بشكل عابر، إلى أنه التقط صورة لهذا المكان أو لتلك الشخصية بواسطة آلته كما تحدث عن الصعوبات والعراقيل التي واجهها وكانت بمثابة العائق التي أثرت على طبيعة عمله أو حتى النتائج المنتظرة من عمله الفني وخاصة منها عامل الطقس الذي تميز بشدة الحرارة وإرتفاع الرطوبة. ورغم قلّة هذه الإشارات، فإنها تظل ذات أهمية كبيرة للباحثين والمهتمين بتاريخ الصورة، إذ تُعينهم على البحث والتنقيب عمّا نُشر وظهر، كما تفتح أمامهم آفاق الاطلاع على ما يزال مجهولًا أو مغمورًا في المكتبات العامة أو ضمن المجموعات الخاصة. 

لم ينغلق صادق باشا على نفسه، ولم يقتصر على تجربته الفوتوغرافية في الوسطين المصري والعربي فحسب، بل انفتح على تجارب أخرى، حيث قدّم نحو اثنتي عشرة صورة في المؤتمر الدولي الثالث لجمعية الجغرافيين الدوليين، التي عُقدت في مدينة البندقية عام 1881. وقد عرض صوره الفريدة التي نالت إعجابًا واستحسانًا كبيرين، مما مكّنه من الحصول على الميدالية الذهبية في تلك الدورة. وإن كان هذا التعريف وهذا التكريم يعكسان شيئًا، فإنما يعكسان مدى براعة محمد الصادق باشا وحرفيّته، إذ نجح في انتزاع الاعتراف بقدراته الفنية والتقنية في أحد أبرز المحافل الدولية.

وقبل هذا التاريخ، وتحديدًا في عام 1876، شارك محمد صادق باشا بمعرض فيلادلفيا في الجناح المصري بصور التقطها خلال أسفاره المتعددة. وعلى الرغم من أنه لم يُتوَّج بأي جائزة، فقد نجح في إثبات حضوره في المحافل الدولية الكبرى، وجذب الانتباه إلى أعماله الفنية وإلى شخصه كفنان موهوب. 
تمتلك مكتبة قطر الوطنية مجموعة من الصور التي التقطها الصادق باشا خلال رحلاته الثلاث إلى مكة والمدينة. وتُعبر هذه الصور عن جوانب مما وقعت عليه عينه وأثار فيه الرغبة في تخليد ذكراها.

ولا تقتصر أهمية هذه الصور على بعدها الفني فحسب، بل تُعد أيضًا من أهم المصادر، أو بالأحرى من الروافد الأساسية لدراسة تاريخ منطقة الحجاز في أواخر القرن التاسع عشر. كما تكمن أهميتها في كونها وثائق تؤرخ وتوثق لبدايات نشأة فن التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي، وتُبرز امتداداته الجغرافية والمعرفية، انطلاقًا من وسط أوروبي لا يزال آنذاك يتلمّس طريقه في هذا المجال، وصولًا إلى نخبة محدودة بدأت تشق طريقها في بعض الدول العربية، وخاصة مصر، بعد إصلاحات محمد علي باشا (حكم 1805-1848)، حيث ولد وترعرع محمد صادق باشا.  

 

إضافة تعليق جديد