كيف وصف الأوروبيون غير المسلمين مشهد الحجاج في عرفات في القرنين السابع عشر والتاسع عشر؟

بقلم: أبو الحجاج محمد بشير، محرر المحتوى باللغة العربية
pilgrims on mount Arafat

 

بعد أيام قلائل يقف ملايين الحجاج على جبل عرفات في مشهد عظيم يخلب الألباب وتتسابق إلى تصويره وتسجيله عدسات المصورين وكاميرات وسائل الإعلام ووكالات الأنباء من كل دول العالم. وفي اليوم التالي مباشرة تتصدر صورة الحشود الهائلة من المسلمين في ملابس الإحرام على صعيد عرفات الصفحة الأولى من كبرى صحف العالم. 

لم يكن الحال كذلك في القرنين السابع عشر والتاسع عشر وفقًا لكتابين في مكتبتنا التراثية، فبالرغم من أهمية مكة والمدينة في العالم الإسلامي المترامي الأطراف، على مر التاريخ، لم يصف مكة والمدينة من الأوروبيين مثلاً سوى عدد قليل للغاية، أما من شهد منهم شعائر الحج فلا يكاد يبلغ عدد أصابع اليد الواحدة، وذلك لأن دخول مكة المكرمة محظور على غير المسلمين. 

لم يكن يخطر على بال جوزيف بيتس ‏(1663 - 1735)، البحار البريطاني الشاب على إحدى السفن البريطانية، أنه سيقع يومًا أسيرًا لبحار جزائري باعه لشخص آخر واصطحبه ذلك الشخص معه إلى الحج. وفي عام 1680 انطلق جوزيف مع سيده الجزائري في رحلة إلى الحج من الجزائر إلى الإسكندرية بحرًا ثم في النيل إلى القاهرة، ومنها إلى السويس برًا ثم أبحروا من السويس في رحلة طويلة مدتها شهر كامل إلى ميناء رابغ ومنها إلى جدة ثم مكة المكرمة.

joseph pits' book coverجوزيف بيتس هو أول إنجليزي في التاريخ الحديث يزور مكة المكرمة عام 1091هـ، 1680م، وهو أول ‏من وصف طريق الحج الغربي، ورحلته من أقدم الرحلات الأوروبية إلى البلاد العربية، وقد وثقها في كتابه ‏(وصف صادق وأمين لدين وأخلاق المسلمين مع وصف تفصيلي لشعائر ‏‏‏حجهم إلى مكة). يصف بيتس في كتابه ‏مكة المكرمة، أهم مدينة في العالم الإسلامي والسكان وعاداتهم ‏والمناسك المتبعة أثناء أداء شعيرة الحج في فترة شحيحة المصادر، ليصبح هذا الكتاب من أهم المراجع للرحالة ‏والمستكشفين الأوروبيين الذين أتوا بعده، والراغبين في اقتحام أسرار الصحراء العربية.‏

وبالرغم من زيارته إلى مكة كأسير بصحبة البحار الجزائري، فإن مشهد الحجاج على صعيد عرفات قد حرك مشاعره إذ حمله على أن يصفه في كتابه بكلمات تفيض بالإعجاب والتقدير:

”لقد كان مشهداً يأسر القلب حقًا؛ أن ترى هذه الآلاف المؤلفة في لباس التواضع والتجرد من ملذات الدنيا، برؤوسهم الحاسرة، وقد بللت الدموع وجناتهم، وأن تسمع تضرعاتهم وبكائهم طالبين الغفران والصفح لبدء حياة جديدة وإنه لأمر يدعو للأسف أن نقارن ذلك بالخلافات الكثيرة بين المسيحيين".

Leon Roch's book cover

أما الفرنسي ليون روش ‏(1809 - 1901)، وهو ابن جندي فرنسي شارك في الحملة الفرنسية لاحتلال الجزائر، فقد سافر إلى الحجاز في موسم الحج متنكرًا كمسلم جاء لأداء فريضة الحج، بينما كان في الحقيقة في مهمة مخابراتية، بناءً على ما كتبه في كتابه فيما بعد. فقد كلفه المارشال توماس بوجو، الحاكم العام للقوات الفرنسية التي تحتل الجزائر، بمهمة زيارة شريف مكة المكرمة في عام 1841 والحصول على فتوى تحث المسلمين الجزائريين على التوقف عن المقاومة التي يقودها الأمير عبد القادر ضد قوات الاحتلال الفرنسي وقبول السيطرة الفرنسية مقابل تعهد فرنسا باحترام مؤسساتهم الدينية والقضائية. وقد سجّل روش هذه الرحلة إلى مكة المكرمة في كتاب بعنوان (اثنتان وثلاثون سنة في رحاب الإسلام 1832 - 1864). وكلًا من كتابه وكتاب بيتس متاح للاطلاع في المكتبة التراثية بمكتبة قطر الوطنية. 

بخلاف موسم الحج الحالي الذي يأتي في الصيف، تزامن الحج في زمن ليون روش مع فصل الشتاء. يقول عن ليلة الذهاب إلى عرفات:

"كان الليل باردًا وحالكًا...سأمتنع عن وصف المشهد الذي تصوره تلك المخيمات العديدة المنارة بضوء النيران المشتعلة أمام خيام علية القوم والمسلمين الميسورين. كان الضوء المنبعث من تلك النيران يتيح رؤية آلاف الحجاج المتأخرين".

وعن يوم عرفات يكتب روش:

"كان التاسع من ذي الحجة عام 1257 هجرية الموافق 22 يناير 1842 يومًا لن أنساه ما حييت. أعلنت لنا طلقة مدفعية بدء صلاة الفجر، وارتفعت من كل حدب وصوب أصوات المؤذنين من عدة مخيمات صداحة رنانة تدعو إلى الصلاة".

روش لم يعتنق الإسلام حقيقة، بحسب روايته، فقد تظاهر بذلك للتجسس على الأمير عبد القادر الجزائري. وكان يشعر بالخوف من أن يكشف حقيقة أمره الحجاج الجزائريون الذين كانوا يعرفونه بسبب عمله كمترجم للقوات الفرنسية هناك، وهو ما حدث بالفعل، فقد اكتشفه الحجاج الجزائريون وهاجموه، إلا أن قوات شريف مكة التي أرسلها لمراقبته تدخلت وانقذته من بين أيديهم. 

A page fro Leon's book

 

يصف روش مشهد الحجاج في الساعات الأخيرة من يوم عرفات بكلمات فاضت بمشاعر الإجلال والتقدير، قائلًا:

"أذن المؤذن لصلاة العصر، وبدأ الخطيب خطبته. تعذر عليّ فهم ما يقول لكنني كنت أسمع ابتهالاته إلى الله تعالى. كان مع كل دعاء يرفع ذراعيه على مهل نحو السماء ويحذو حذوه في هذه الحركة ستون الفا من الحاضرين الذين كانوا يرددون مهللين على نحو رائع: لبيك اللهم لبيك؟ هل يمكن وصف مشهد مماثل؟ لن أحاول ذلك، لأنني لو فعلت سأقلل من عظمته وأنتقص من روعته".

يستطرد في وصفه المؤثر قائلا:

"كان أكثر الحجاج ورعًا يتزاحمون في أثناء الخطبة على منحدرات جبل عرفات. بعضهم كان ينتحب، وبعضهم الآخر يقرع صدره. وبعض ثالث يركع. والعدد الأكبر منهم كانت تأخذه نشوة روحية".

يقدم كتابا بيتس وروش رؤية فريدة لمشهد الحجاج في صعيد عرفات في القرنين السابع عشر والتاسع عشر من منظور شخصين أوروبيين من خلال معايشتهما المباشرة لوقوف المسلمين في يوم الحج الأكبر. وبالرغم من مرور 343 عامًا على مشاهدة جوزيف بيتس لشعائر الحج و181 سنة على رحلة ليون روش إلى مكة المكرمة، يظل كتابيهما اللذان وثقا رحلتيهما إلى البلد الحرام وثيقة تاريخية بالغة الأهمية تسلط الضوء على وجهة نظر الأوروبيين غير المسلمين الذين تمكنوا من مشاهدة مناسك الحج ورصد وقائع هذه العبادة العظيمة، وتصف لنا حواضر العالم الإسلامي مثل الجزائر ومصر والحجاز في فترة تاريخية لم يصلنا منها إلا القليل من المؤلفات والكتابات التي تصور أهم رحلة يقوم بها أي مسلم في حياته كلها. 

تحرص مكتبة قطر الوطنية على رقمنة الوثائق التاريخية والكتب القديمة المطبوعة التي تتناول التاريخ والجغرافيا والثقافة في العالم العربي لا سيما منطقة الخليج وإتاحتها لاطلاع المهتمين والباحثين والدارسين في جميع أنحاء العالم وذلك عبر نشرها في مكتبة قطر الرقمية والمستودع الرقمي. كما لا تدخر المكتبة وسعًا في إتاحة مصادر المعرفة لروادها عبر موقعها الإلكتروني وتطبيقها للأجهزة الذكية ومصادرها الإلكترونية، وخدمة اسأل أخصائيي المكتبة والاستشارات البحثية.
 

إضافة تعليق جديد